قبل بضعة شهور, كنت في مصر في إجازتي السنوية. قررت يوما أن ازور منطقة الأهرامات, حيث لم أزرها سوى مرة و احدة من قبل. اصطحبت معي كاميرتي و ركبت أحد الميكروباصات التي تقلك إلى آخر شارع الهرم.
و انا أصعد هضبة الهرم, جال في خاطري ما إذا كان أجدادنا قد تعمدوا أن من يذهب إلى أهراماتهم يجب عليه أن يصعد و يصعد و يصعد, و حين يصل, يجدها أصلا عالية شامخة؟ بناء عملاق قيل انه قبر للفرعون العظيم, و قيل انه فكرة مشروع قومي يلتف حول بناءه الشعب في فترات البطالة أثناء فيضان النيل.
وجدت طبعا العديد من الشعور الشقراء و العيون الزرقاء و الوجوه الشاحبة على رأي الهنود الحمر. و هناك أيضا عيون أخرى ضيقة صغيرة, ولكني لست هنا بصدد الحديث عن (سميث) و صديقته (هانا) او حتى الخواجة (تاكورا أوكويانا). بل سأتحدث عن (بطة) و أختها (شيرين) و من يدعى (كشري).
(بطة) طفلة صغيرة لا يزيد عمرها عن 7 سنوات, تبيع هي و (شيرين) التي تكبرها قليلا تلك المنتجات التي يحلو للسياح شرائها من أوراق البردي المطبوع عليها رسومات لنفرتيتي و توت عنخ آمون و غترة و عقالا و ما إلى ذلك. رق حالهما لي فأخرجت لـ(بطة) 5 جنيهات أخذتها و مدت يدها بما فيها من بضاعة و قالتي لي:
What do you want?
قلت لها: و لا حاجة....دي ليكي انتي.
صمتت قليلا لتستوعب أنني لست خواجة ثم مدت يدها بالجنيهات مرة أخرى و قالت: شكرا. بس أنا مش باخد حسنة.
قلت: بس انا شفتك قرفتي الراجل الخواجة اللي هناك ده لحد مادالك دولار.
قالت لي: بس انت مصري مش خواجة.
ابتسمت من منطقها البسيط. هي تعلم أن ما تقوم به من استجداء هو أمر مزعج و لا يصح, لكن لديها حس وطني لا بأس به تجاه ابناء بلدها. أخذت (بطة) النقود و اصرفت و جلست أنا على أحد المقاعد المخصصة لعروض الصوت و الضوء التي تجري على سفح الهضبة أمام تمثال أبي الهول. رأيت في الصفوف الأمامية للمقاعد صبيا مراهقا يبدو من هيئته أنه ينتمي لعالم (بطة). بعد دقائق اقترب منه عسكري و بدأت محادثة غير هادئة بين الطرفين. لم أسمع ما يقوله العسكري لكن (كشري) – عرفت اسمه فيما بعد – كان يكرر بوضوح: و الله لسه ماشتغلتش! اصبر عليا شوية.
لم أجد صعوبة في استنتاج فحوى المحادثة. نهضت اتجول و التقط بعض الصور للمكان ثم وجدت من يجذبني من الخلف. التفتت لأجد (بطة) تبتسم و تقول: شكلك جعان...خد الساندوتش ده..ماتقلقش مش عايزة فلوس.
ابتسمت رغما عني و قلت لها: شكرا... انا لسه فطران قبل ماجي. بس قوليلي...انتي بتعرجي ليه؟
قالت: اصلي وقعت و انا بجري من العساكر الأسبوع اللي فات...كانو عايزين يقبضو علينا عشان كان في حفلة عند الهرم.
سالتها: انتي بتروحي مدرسة يا (بطة)؟
قالت: ايوه بروح...و بشتغل بعد ماخلصها.
ثم استطردت و هي تنظر للكاميرا: انت بتشتغل مصوراتي؟
وجدت صعوبة في أن أشرح لها هواية التصوير أو حتى معنى كلمة هواية, فهي بالنسبة لها أمر يدفع فيه الناس المترفون من امثالي مالا فيما لا يعود عليهم بمال أكثر, فقلت: ايوه, في مجلة.
سألت (بطة): في مجلة زي مجلة ماجد كده؟
ابتسمت و قلت: تقريبا.
سألتني مرة أخرى: و بيدفعولك كام في الصورة؟
أنا : مش كتير و الله.
هنا اقتربت حافلة تقل دجاجا يبيض ذهبا, اعني تقل بعض السياح فانصرفت (بطة) لتقوم بعملها.
فكرت و انا في طريق عودتي فيما رأيت. رأيت حضارة شامخة تخلب الألباب و أطفالا خبروا الحياة قبل الآوان و سلطة فاسدة و قوم مترفون.. ثم تذكرت بيت الشعر الذي حاولت مرارا أن أتذكره طوال الرحلة:
ليس الفتى من قال كان أبي و لكن الفتى من قال هائنذا.
هناك ٥ تعليقات:
بص يا معلم
بطة دي ممكن تكون بوضعها ده اسعد مننا كلنا
ممكن برضه بنفس الطريقة اللي رجعت لك بيها فلوسك
تقولك ما تكتبش عني بالشكل ده
مش عايز تعاطفك ونحنحتك
انا بروح المدرسة
وبشتغل
وبتفرج عالاهرامات كل يوم
وزي ما قال الشاعر
نحن في نعمة لو عرفها الملوك
لجالدونا عليها بالسيوف
وفعلا
ليس الفتى من قال كان ابي
ولكن الفتى من قال يا معسلة بالقوي يا بطاطا
اعتقد يا هوك أنك كنت تقصد انتقاد من أدى ببطة إلى هذا الحال بالرغم من انها فتاة موهوبة تستحق أكثر مما هى عليه الآن ولو رأى أجدادنا الفراعنة ما نحن فيه الأن لقاتلونا بالسيوف ليس لأننا فى نعمة ولكن لأننا فى وكسة
الأخ هوك يا استاذ ابو شنب مكانش بيتنحنح وإنما كان يثير قضية هامة جدا وهى قضية اطفال الشوارع
تحية للاخ ابو شنب محب البطاطا
واحيي الصديق هوك علي صوره المعبرة ويظهر ان عنده موهبة رائعة في التصوير الفوتوغرافي مثلي تمام :)
وانا شفت زي بطة كتير في اسيوط من الاطفال اللي بيبيعو المناديل في الشوارع بالليل وبالنهار بيروحو المدرسة وساعات باضايق عشانهم بس لما باكلمهم باحسهم فرحانين ومبسوطين وده اهم حاجة
تحياتي للجميع
طول ما أنا عمالة أقرا الحوار ده بيزن فى دماغى صور لأطفال من نوع أخر.. بتوع النوادى الفارهة والمدارس الأجنبية اللى بيتكلماو عربى بالعافية.. اللى ماام وبابا بيبعتولهم عربية مكيفة بسواق مخصوص عشان توديهم النادى ويصيفوا كل سنة ماعرفش فين وطبعا نايهك عن اللبس والحلويات المستوردة كلها عشان المصرى كخة ومش قد المقام...
سبحانك يارب...
نقطة ما حدش علق عليها وهي حوار كشري مع العسكري وقوله له: لسة ما اشتغلتش.. أصبر عليا شوية. وهذه حالة مقرفة: العسكري (السلطة) الذي لا يخاف الله في العيال دي ويقاسمها عرقها... صورة مصغرة للفرعون.
العيال دي قد تكون مبسوطة دلوقت طالما هي عيال...وبعدين لما يكبروا واحتياجاتهم تكبر على رزقهم البسيط دة...يا ترى رح يكونوا لسة مبسوطين واللا دي طريقة مبتكرة لتخدير ضمائرنا؟
إرسال تعليق