الاثنين، مايو ٠٣، ٢٠١٠

من يلقى القبض على الحكومة؟!

بقلم مجدى أحمد حسين:

من يلقى القبض على الحكومة؟ بل من يلقى القبض على نظام مبارك؟ ويسلمه للعدالة! كتبت فى التسعينيات مطالبا وزير الداخلية بتسليم نفسه لأن المكان محاصر! وبعد ذلك بعام تمت إقالته، وتوعدت يوسف والى بأننا سننتصر عليه ونطرده من الحكومة عندما كان الرجل القوى أمين عام الحزب الحاكم والنائب الأوحد لرئيس الوزراء بالإضافة لوزارة لزراعة، وقد حدث وكتبت منذ عدة سنوات مطالبا مبارك بتسليم نفسه, واعتبر البعض أن هذه سخرية مبالغ فيها ولا تجوز. ولا أنكر أننى أنحو أحيانا فى كتاباتى للأسلوب الساخر من شدة الواقع المرير، ولكن الموضوع أكبر من ذلك، فعندما يحاط الحاكم بهالات القداسة، ويعتبر الاقتراب من نقده جريمة أو جنون فلابد من تبديد هذه الهالات المزعومة والمزيفة، وإنزال الحاكم إلى مرتبة البشر الذى يخطىء ويصيب, والذى يمكن حسابه ومحاكمته إذا اخطأ أو ارتكب جريمة ما.

وأحسب أن هذا الهدف قد تحقق إلى حد كبير، وأصبح الاقتراب من نقد الحاكم معتادا أو أقل خطورة! وبالتالى لم يعد هناك فى ضرورة استخدام هذه الألفاظ الحادة, ولكن ما حدث من انفجار مدوى تحت قبة البرلمان بخصوص فضيحة الصناديق الخاصة لا يمكن وصفه بألفاظ غير حادة, لأننا أمام ما وصفه النائب أشرف بدر الدين بأنه (أكبر جريمة نهب للمال العام فى تاريخ مصر بل تاريخ البشرية)!!
والحقيقة فإننى لا أقول أكثر مما يقوله سدنة النظام وأركانه فهم يقولون: لا تهاون مع الفساد مهما علا. ولكننى أقول ذلك على سبيل الجد، وهم يقولونه على سبيل الهزل! اذكر إننى استقبلت طالبة من كوريا الجنوبية تعد دراسة دكتوراه عن مصر قبل عام 1952! (هل يوجد فى مصر من يقوم بدراسة دكتوراه عن تاريخ كوريا؟!) وكانت تريد الإطلاع على أعداد من مجلة مصر الفتاة القديمة بالإضافة للحوار معى، وبعد أن انتهيت قلت لها: لابد من استغلال هذه المقابلة كى أسألك عن تجربة التنمية فى كوريا الجنوبية نحن مبهورين بها هنا فى مصر. فأعطتنى درسا مهما (وهى من عائلة سياسية ووالدها عضو بالبرلمان) حيث قالت لى الأهم من التقدم الصناعى والاقتصادى أن بلادنا أصبح فيها قانون، وأرى أن أهم ملمح لتطوير كوريا الجنوبية، أن اثنين من رؤساء الجمهورية تمت محاكمتهما فى قضية فساد!!
وما أدعو إليه من ضرورة محاسبة رأس الدولة عندما يخطىء يتوافق مع الدستور الحالى (رغم ما فيه من عيوب) حيث تنص بعض مواده على محاكمة رئيس الجمهورية فى حالة الخيانة العظمى, مما يعنى ضمنا جواز محاكمته على دون ذلك أيضا. وأعيد التذكرة بهذه الواقعة (أو القارعة) التى تفجرت تحت قبة البرلمان وبعض الإعلام المستقل والخاص, ثم تم إغلاق ملفها وكأنها موضوع فرعى يمكن التجاوز عنه.
فقد كشفت تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات أن الصناديق الخاصة التابعة للوزارات والهيئات العامة والتى تنشأ بقرارات جمهورية (لاحظ جمهورية!) والتى تستقبل حصيلة الخدمات والدمغات والغرامات، لا تدخل مواردها ميزانية الدولة وقد بلغ عددها عشرة آلاف صندوق. والأهم من ذلك أن حصيلتها لعام 2008-2009 قدرت بـ 1272 مليار جنيه (أى تريليون وربع تريليون) وهذا يعنى أنها تعادل 446% من إجمالى إيرادات الموازنة العامة التى تعانى من العجز.
إذن تحولت الصناديق إلى الأصل والموازنة الرسمية إلى الفرع، وهذه الأموال الهائلة بخروجها من الموازنة خرجت من تحت نظر رقابة مجلس الشعب المفترضة, إذن نحن أمام استيلاء على 4/5 (أربعة أخماس) ثروة المجتمع وإنفاقها بدون ضوابط. والمعروف أن أهم بنود صرف هذه الصناديق هى المكافآت لكبار العاملين والإداريين فى الحكومة ورواتب المستشارين، كما أن مواردها تتحول لموارد عينية كبناء المساكن والشاليهات والمصاريف.. الخ, والتى يتم توزيعها على المحاسيب. ومن الطبيعى فإن الوزراء ورؤساء الهيئات هم المتصرفون فى هذا الكم الهائل من الأموال الذى يمثل أكثر من أربعة أمثال الموازنة العامة. وهذه الواقعة تؤكد حقيقة أن البلاد بها ثروة كبيرة, ولكنها لا توجه للارتفاع بمستوى الشعب من خلال رفع مستوى الخدمات، ومعدل التنمية، ورفع مستوى الأجور.
وهذه الواقعة (أو القارعة) تفسر لماذا يستمر النظام فى حالة من الاستقرار رغم كل ما يرتكبه فى حق الشعب. فهذه الصناديق خلقت طبقة واسعة نسبيا من المستفيدين بهذه الصناديق, وقد أصبحوا أصحاب مصلحة فى استمرار هذا النظام، وهذه الصناديق تزدهر من الجباية وليس من الإنتاج، وهذا ما يضغط على الطبقات الشعبية، وهذا ما يفسر تعاظم الإضرابات والاعتصامات والتى أصبحت جزءا من المشهد اليومى للعاصمة ومصر كلها.
ولا شك أن الكبار يحصلون على معظم موارد الصناديق, ولكنهم يسربون الفتات لمتوسطى الموظفين بما يكفى لضمان صمتهم، ولكن قانون النهب لا يراعى التوازن, لذلك عرفت الإضرابات طريقها لقطاعات متزايدة من موظفى الدولة, وهذه ظاهرة جديدة فى مصر.
ولكن تظل الكارثة الأكبر فى إغلاق الملف، وكأن شيئا لم يحدث، ولا شىء مستغرب على مجلس الشعب غير الشرعى، ولكن ماذا لو قام أحد نواب الحزب الحاكم بقتل نائب من المستقلين أثناء انعقاد الجلسة وداخل قاعة المجلس؟ ماذا لو تم إخراج جثة النائب المقتول، واستمرت الجلسة فى حضور النائب القاتل وتم الانتقال إلى جدول الأعمال العادى، هل يمكن تصور حدوث هذا المشهد؟!
ستقولون: لا. ولكن إغلاق ملف الصناديق الترليونية لا شك أخطر، لأنه عملية قتل جماعى للموظفين، لأن هذه الأموال المنهوبة كان من المفترض أن توجه للصحة والتعليم والتنمية عموما, والاستيلاء عليها بصورة غير مشروعة يؤدى عمليا لقتل المواطنين الذين لا يملكون نفقة العلاج، ولا يجدون عملا فيهربون إلى أوروبا ويموتون فى قاع البحر (حتى أن قرية واحدة فى الدلتا مات منها وحدها حتى الآن 150 شابا فى قاع المتوسط!).
إذن نحن أمام عملية قتل جماعى، وعملية سرقة علنية وموثقة لثروة الأمة, وقد كنا نتحدث من قبل عن عمليات فساد بعدة ملايين ثم بعدة مليارات، ولكننا لم نسمع بعد عن عملية فساد بتريليون، وبما يفوق الميزانية العامة أربعة أمثال, بل ما يفوق إجمالى الدخل القومى، أى أنها عملية سرقة للجسم الحى للشعب، فإذا كانت السرقة أكبر من حجم الدخل القومى فهذا يعنى أننا أمام امتصاص دم الشعب بالمعنى الحرفى.
فعندما يُضرب الإنسان عن الطعام فإن جسمه يتغذى من شحم وكبد جسده حتى يستمر على قيد الحياة. والشعب المصرى الآن أشبه بهذا الإضراب عن الطعام الذى يتآكل جسده ولكنه ما يزال على قيد الحياة. وبنفس هذا المنظور يمكن النظر لعشرات المليارات التى نهبت من التأمينات الاجتماعية بما يهدد أصحاب المعاشات فى المستقبل القريب, نحن أمام عملية تدميرية لكيان المجتمع، ولا يمكن إزاءها أن تمحور حركة المعارضة لذاتها حول المواد 88،77،76 من الدستور، وحتى إذا تم تعديل هذه المواد فإن أصحاب هذه الصناديق لن يسلموا البلد لأحد، ولن يسمحوا بانتخابات نزيهة تؤدى إلى ضياع تريليون وتريليون وربع من أيديهم. إن استمرار أصحاب هذه الصناديق المؤسسة بقرارات جمهورية، هم أساس بلاء ومشكلة مصر. والعصيان المدنى للخلاص منهم هو الحل الأوحد والطريق الأسلم لدخول أى مستوى من الإصلاح، والانشغال بأى موضوع آخر هو مضيعة للوقت، بل مضيعة للوطن.
هذه هى الإجابة على السؤال المطروح: من يلقى القبض على الحكومة؟! فعندما ترتكب حكومة جرائم بهذا الحجم فكيف ستحاسب أو تحاكم نفسها. إن إلقاء القبض على الحكومة يعنى الثورة الشعبية أو إن شئت العصيان المدنى المتزامن (لا تلك الإضرابات المتناثرة والمتقطعة، لكل طوائف الشعب). والذى سيتصدر هذا العصيان أو الثورة الشعبية هو الذى سيشكل النظام الجديد.
لا أدرى كيف يطالب البعض بتعديل الدستور؟ بينما الذى سيصوغ هذا التعديل هو هذا المجلس الذى تستر على سرقة بتريليون وربع تريليون.
الحل ليس فى تعديل الدستور، ولكن فى تعديل النظام!
*****
مقالات أخرى لمجدى حسين:

ليست هناك تعليقات: