الثلاثاء، يناير ١٢، ٢٠١٠

سفينة نوح ودماغى كدة


سفينة نوح لخالد الخميسى

قرأت منذ أيام رواية سفينة نوح للكاتب خالد الخميسى مؤلف الكتاب الرائع "تاكسى"

الرواية رائعة جدا مما يثبت بالفعل أن خالد الخميسى كاتب متمكن ولم يكن نجاح كتابه الأول نجاحا بالصدفة

الكتاب ذكرنى بفيلم أمريكى لا أذكر اسمه رأيته منذ عدة سنوات يحكى عن حكايات منفصلة ولكنها مترابطة عن عدد من الشخصيات مختلفة الأصول العرقية فى المجتمع الأمريكى، ويتناول الفيلم وجهة نظر كل شخصية للأصول العرقية الأخرى فى المجتمع الأمريكى.

استخدم الخميسى الفكرة ذاتها فى روايته سفينة نوح ليتحدث عن ظاهرة هجرة المصريين التى أصبحت كسفينة نوح الى تنقذهم من طوفان الفساد والقهر والجهل والتطرف.

ورغم اختلافى مع وجهات نظر بعض أبطال حكايات الخميسى إلا أن الحكايات المنفصلة مترابطة بحبكة درامية شديدة ولكن على من ينوى قراءة سفينة نوح أن يصفى ذهنه تماما فسوف تختلط عليه الأسماء بالتأكيد فهى كثيرة جدا.

عموما الرواية تستحق القراءة بالتأكيد وتدعوك للتأمل فى حال وطن كاد أن يصبح خرابا.



دماغى كدة – عن البنيوية العملياتية الفتحوية

استمرارا لحالة القراءة التى تنتابنى هذه الأيام واستغلالا لهذه الحالة اخترت لكم من كتاب دماغى كدة الذى هو مجمع لبعض مقالات الرائع أحمد خالد توفيق هذه المقالة، عن البنيوية العملياتية الفتحوية:

"أعرف من يرفض حقا .. من لون الغربة والجوع بعينيه وأعرف أمراض التخمة"

لماذا أتذكر هذا المقطع من شعر "مظفر النواب" الآن وفى هذه الظروف؟

من الجلى أن "مظفر النواب" كان يعتمد كثيرا على انطباعه الشخصى، وهذا ما حدث معى بالضبط عندما كنت اشاهد شاشة الجزيرة منذ أعوام بعد ما فكت اسرائيل حصار عرفات أول مرة واجتاحت جنين يوم الجمعة 5 ابريل 2002. كنا نحن نحترق غما وألما بعد ما رأينا الجثث مكومة فى الأكياس السوداء، ورأينا المسعفين يلبسون الكمامات وهم يملئون شاحنة كاملة، ورأينا الرجل الذى قضى ثلاثة أيام حبيسا مع جثث أمه وولديه وزوجته التى دب فيها العفن، عاجزا عن دفنهم أو الخروج من البيت. فيما بعد رأيت موقعا متخصصا فى الصور المرعبة اسمه "روتن دوت كوم" فيه فصل كامل عن مذبحة جنين، ترى فيه صورا لا يصدقها عقل ولا يتحملها جهاز عصبى بشرى، مع تعليق ساخر من صاحب الموقع الأمريكى يقول: "ومستر أنان يصر على أنه لم تحدث مذبحة فى جنين".

رأينا كل هذا ثم رأينا عرفات يتصدر المائدة بينما من حوله رجال فتح يحتفلون "بالنصر المؤزر" الذى هو فك الحصار، كأن لهم من أمرهم شيئا وكأن اسرائيل غير قادرة على إعادة الحصار فى أية لحظة تريد. كان هناك جو عام من المرح أكثر مما يتحمله الموقف .. ضحكات .. قهقهة .. قفشات .. وتوقفت الكاميرا عند رجلين مكتنزين غليظى الشاربين والجسدين جالسين إلى المنضدة يتبادلان المزاح مع ذلك التعبير الفاحش الذى يوحى بأنهما يقولان نكتا "أبيحة"، ثم لاحظ أحدهما الكاميرا فتقلص وجهه وهمس فى أذن صاحبه كى يأخذ باله. كان انطباعى عن المشهد أن هذه وجوه تعانى "أمراض التخمة". هناك كعكة دسمة جدا فى الموضوع، وهم سعداء بأنها عادت لهم بصرف النظر عن الجثث المكدسة فى أكياس. انطباع آخر شعرت به هو أن هذه ذئاب يسيطر عليها مدرب محنك يلعب بالبيضة والحجر هو "عرفات"، لكنه لو توارى لانقضوا على كل شئ. كان وضع عرفات مع الإضاءة يوحيان نوعا بالمسيح فى صورة العشاء الأخير الشهيرة لدافنشى، وقلت لنفسى: إن أحد هؤلاء سيكون يهوذا .. لا اعتقد أننى أخطأت كثيرا، لأن أحدهم هو من دس له السم قطعا، غير أن عرفات لم يكن المسيح بالتأكيد.

فى هذا الوقت كانت هناك اتهامات عدة للعقيد جبريل الرجوب قائد الأمن الوقائى السابق فى الضفة الغربية بتسليم 8 مقاومين من فصائل مختلفة لقوات الاحتلال، منهم مقاتل من حركة فتح نفسها. وهى تهمة أنكرها بشدة وزعم أنهم تم اعتقالهم أثناء اجتياح بتونيا. قال الشهيد أحمد يس أنه تلقى مكالمة استغاثة منهم قبل اعتقالهم تؤكد أن الرجوب هو الفاعل.

هناك مقال شهير يتداوله الفلسطينيون كتبه طبيب فلسطينى اسمه "ابرايهم حمامى" يكشف معلومات عن محمد دحلان الذى ولد فى أسرة فقيرة، وتنقل بين ليبيا وتونس، ويزعم المقال أنه تم تجنيده مع الرجوب من قبل المخابرت المركزية أثناء وجوده فى تونس. أما خطة روما فهى اتفاق يقضى بأن يحتوى دحلان كمسئول للأمن الوقائى حركة حماس. هذه هى الفترة التى اطلق عليه فيها اسم "الكولونيل الوسيم" فى الصحافة الغربية. امتلك فندقا خمسة نجوم فى غزة، وبدأت خلافاته مع عرفات. والمقال يوجه له عدة أسئلة مهمة: "1- من أين أتى بالملايين ليصرفها على أتباعه فى فتح؟ 2- من أين له الأموال ليمتلك فندق الواحة، وليشترى مؤخرا أكبر وأشهر منازل غزة؟ 3- هل يستطيع أن يكشف عن مصدر ثروته المقدرة بـ 53 مليون دولار وهو القادم من عائلة معدمة؟ 4- من دفع فاتورة إقامته بفندق كارلتون تاور بكامبريدج ليتعلم اللغة الإنجليزية على أيدى ثلاثة من المختصين فى أكبر وأغلى الجامعات فى العالم وتحت الحراسة الأمنية؟"

لهذا عندما اقترحت أم العيال أن نتبرع للشعب الفلسطينى فى المصرف، راقت لى الفكرة. ثم راجعتها مرارا .. من قالى لى إن التبرع سيصل فعلا للفلسطينيين؟ .. يصل لأهل إيمان حجو وأهل محمد الدرة وذلك الذى حبس ثلاثة أيام مع جثث أسرته؟ من يضمن لى ألا آخذ المال من قوت عيالى كى أزيد من ثروة الأخ دحلان وسواه، وهو قطرة فى بحر على كل حال؟

عندما يظهر جبريل الرجوب على الشاشة بصلعته وصوته الفظ، ومصطلحاته: "البنيوية العملياتية، وترتيب البيت الفتحوى"، لابد أن تشعر بالاختناق .. كلهم يتكلمون بهذه الطريقة وأسلوب النسب إلى الجمع ليوحى بأنهم من كبار المناضلين، تشعر بذات الجو القديم الذى صاحب اغتيال يوسف السباعى فى 18 فبراير من عام 1979. ربما ترفض كامب ديفيد ومبادرة السادات لكنك كذلك ترفض من اصطلح إعلامنا على تسميتهم "مجاهدى الميكروفونات". ما علاقة كاتب رومانسى مثل يوسف السباعى بالقصة؟، وما الإضافة التى تقدمها باغتياله "منشان القضية"؟. نفس جو اغتيال عصام السرطاوى فى لشبونة يوم 10 ابريل عام 1983. أنت أدنته واعتبرته عميلا، لكن لماذا تقتله وهو خارج من الفندق بينما على بعد متر واحد منه يمشى السفاح بيريز فتتركه .. لماذا لا تقتل الاثنين يا أخى؟ .. لماذا لا تبدأ بعدوك؟

لقد شاخ رجال فتح ما بعد أوسلو حقا .. إنه "تعب المعادن" .. لم تعد هناك علاقة بينهم وبين فتح العقائدية الثورية التى عرفناها أيام خطف الطائرات إياها.

قارن هده العيون المنتفخة التى أغلقتها السلطة والنفوذ بالعينين الحساستين الذكيتين لخالد مشعل أو الرنتيسى او المتحدث الرسمى لحماس. هذه عيون تشى بـ "لون الغربة والجوع" .. عيون :ترفض .. حقا".

قد تختلف مع حماس كثيرا جدا .. هناك ألف تحفظ على خلط الدين بالسياسة والإسلام السياسى، لكن لا تنكر لحظة أن هؤلاء قوم صادقون يؤمنون بما يفعلون وقد ضحوا بحياتهم فعلا، وكان سلاحهم حتى الأشهر الأخيرة موجها نحو هدف واحد فقط هو الهدف الصحيح. أحمد يس القائد العجوز رأينا أجزاء مخه مبعثرة على الرصيف ساعة صلاة الفجر، والرنتيسى تمزق جسده، وخالد مشعل مات فعلا وعاد للحياة لأن الملك حسين لم يستطع قبول اغتياله على أرض الأردن. لا ننكر كذلك أن هناك شرفاء كثيرين فى فتح ما بعد أوسلو، منهم على سبيل المثال الرائد سعيد الكرمى من قادة شهداء الأقصى الذى نسفه الإسرائيليون فى 14 يناير عام 2002..

حماس قد تم وضعها فى المصيدة، وكان عليها أن تواجه تحدى جيفارا الشهير: الثائر الذى يجيد التفجير ودك الحصون عندما يطلب منه ان يبنى ويشيد وأن يفهم تعقيدات السياسة. جندى المدفعية الذى يطلب منه أن يتحول إلى عامل بناء. ربما كانت حماس على استعداد للتعلم وبالتأكيد كانت قادرة عليه، لكن أحدا لم يعطها فرصة .. تحالف العالم كله ضد تجربتها كى تفشل. وفى النهاية كانت الضباع المستفيدة فى حركة فتح على استعداد للقتال حتى الموت من أجل مكاسبها، واشتعل الوضع فى غزة. ربما أكون عاطفيا أكثر من اللازم، لكنى بالفعل أرى الصراع صراعا بين من "يرفض .. حقا" ومن يعانى "أمراض التخمة".

ليست هناك تعليقات: